عام 1895 فازت السيدة ليندا إيستمان بلقب واحدة من أهم 100 أمين مكتبة في القرن العشرين. الاختيار أتى من قِبل جمعية المكتبات الأمريكية، لكن يبدو أن ليندا أرادت أن تبتكر شيئًا يضعها في قائمة أهم 100 أمين مكتبة في القرن الحادي والعشرين أيضًا؛ لهذا فكَّرت في إنشاء أول ما يُمكن وصفه بتحدي للقراءة، وأطلقت عليه «دوري القراءة». وبعض المصادر تقول إن فكرة ليندا لم تكن إلا تطويرًا لفكرة سابقة عليها، فكرة أطلقتها آن هاتشينسون عام 1634؛ فقد أنشأت تلك المستشارة الروحية أول بذرة لنوادي القراءة وتحدياتها.
لكن لا يهم مَن أطلق الفكرة، المهم أن الفكرة ستمر بالكثير من المراحل حتى يتلقفها موقع القراءة الأشهر جود ريدز ويُؤسِّس أول تحدي قراءة بشكله المعروف حاليًا، عام 2011. في التحدي الأول شارك ما يُقارب 150 ألف قارئ، لكن ازداد معدل المشاركات حتى اقترب من حاجز الملايين الخمسة في الأعوام الأخيرة.
تلك الأرقام تعطينا إجابة مباشرة على السؤال حول تأثير تحديات القراءة؛ فهي كانت السبب في ازدياد عدد المشاركين بنسب مهولة كما تُخبرنا الأرقام، لكنها رغم ذلك قد تكون إجابة مُضللة إذا تساءلنا حول جدوى هذه التحديات وفائدتها. فهل مجرد زيادة عدد المشاركين يعني أن تحديات القراءة تُفيد القراء حقًا.
دعنا أولًا نُقر بحقيقة بشرية أساسية، أن البشر يميلون للتنافس عمومًا، أيًّا كان مضمون هذا التنافس. يتبارى الإنسان البدائي في عدد الفرائس التي يستطيع صيدها، ويتبارى الموظفون في عدد المهام التي يمكنهم إنجازها، فإذا ابتدعنا فئة للمثقفين، ووضعناها في تجمع، فبالتأكيد سوف يميلون للتنافس، وبما أن وسيلة التنافس الملموسة والتي يمكن قياسها في حالة الثقافة هي عدد الكتب المقروءة، بالتالي ستشتعل المنافسة في تحديات القراءة، وستركز حول الكم لا الكيف.
ما يقودنا لأول فخ في فخاخ تحديات القراءة أنها تكون علنية، فخ الإعلان عن النوايا أو الخطط قد يقع فيه أحد المشاركين فيتكاسل، وقد يستغله الآخرون للقفز من فوقه فيكون دافعًا للإنجاز أكثر، فالدراسات النفسية في هذا الصدد متنوعة، لكنها تنتهي دائمًا بخلاصتين متناقضتين.
الأولى أن الإعلان عن التحديات، أو النوايا لإنجاز شيء ما، يصاحبه دائمًا عبارات المباركة والتشجيع والانبهار من مجرد وضع التحدي، بالتالي قد يشعر الشخص بأنه قد حصل على مكافأته بالفعل بمجرد عزم المشاركة، ويتكفَّل خيالك ببناء عالم وهمي تكون فيه قد حققت النجاح المطلوب، بالتالي لا داعي للسعي الواقعي للإنجاز.
أما الخلاصة الثانية فهى تقف على طرف النقيض مع الخلاصة السابقة، فبعض الأشخاص حين يُعلنون عن أهدافهم يستمرون في سبيل إنجازها، ربما بمُعدل أكبر من حالتهم إذا لم يعلنوا؛ لأنهم يكونون في حالة من الشعور أنهم مُراقبون. يراقبهم هؤلاء الذين باركوا لهم وشجَّعوهم، وبالتالي لا يريد الشخص أن يتسبب في خذلان المجموعة التي تراقبه وتراهن عليه، ولا يريد بالتأكيد أن يتسبب لنفسه بالحرج إذا لم يُحقق المطلوب منه، أو ما أعلن سابقًا أنه قادر على تحقيقه.
إذن فتلك الدراسات والنتائج المتبانية تُبرِّئ تحديات القراءة من ذنب تثبيط القراء، وتنزع منها أيضًا فضل تشجيعهم، فالكرة بالكامل في ملعب القارئ نفسه، والتحديات ليست إلا أداة يمكنه الاستفادة بها، أو الوقوع ضحية لها. كما يفعل بعض القرَّاء حين يقترب العام من نهايته، أو تقترب المسابقة المُعلنة من نهايتها، ويظل بينه وبين عدد الكتب المستهدف فارق كبير، فيلجأ إلى حيلة للقضاء على الفارق، وهي قراءة كتب صغيرة الحجم، أو سهلة المواضيع، لمجرد إحصاء الصفحات، وزيادة عدد الكتب المقروءة في عداد القراءات.
في اللحظة التي يشغِل فيها عدَّاد القراءات ذهن الشخص، يكون التحدي قد أضحى بلا فائدة، وإهدارًا للوقت، فتتحول القراءة من فعل للمعرفة، واكتساب الخبرات، إلى فعل تنافسي كسباق دراجات أو سباق للجري، لا يهم فيه سوى أن تصل لخط النهاية أولًا، وبالتالي لا بأس إذا لم تُركِّز في مضمون ما تقرأ، ولم تستوعب ما مرت عليه عينك، ما يعني أن ما فعلته لا يمكن وصفه بالقراءة.
يمكن أن يأتي الرد على هذه النقطة بسيطًا؛ أن القراءة يجب ألا تكون كلها لأشياء معقدة تحتاج لتركيز، هناك أشياء يكفي فيها المرور السريع لهضم الفكرة الأساسية فيها. في ذلك الرد جانب من الصواب، لكنه يعتمد أولًا على أن تعرف لأي نوع من القُراء تنتمي، أو ينتمي مضمون الكتاب الذي تقرؤه.
فمثلًا هناك القارئ الباحث عن التسلية فحسب، والمعيار الوحيد للكتاب الجيد بالنسبة له هو أن يكون الكتاب ممتعًا، وفي تلك الحالة ستكون القراءة السريعة للمحتوى منطقية فعلًا؛ لأنهم غالبًا يختارون كُتبًا لديهم تآلف سابق مع محتواها، أو أسلوب كاتبيها، كنوع من السلاسل الترفيهية مثلًا.
على الجهة الأخرى سنجد نوعًا من القرَّاء يمكن وصفه بالقارئ المتخصص، وهو القارئ المهتم بجانب أكاديمي معين فيقرأ الكتب الدقيقة فيه، أو الدراسات البحثية التي تتناول هذا الجانب فيه، بالتالي تتصف قراءتهم بكونها أقرب للتشريح التقني للمادة، ومحاولة الوقوف عند كل سطر وكل معلومة، وبالتالي سيكون من الصعب تمامًا وضع هذه النوعية من القرَّاء داخل تحدي قراءة، حتى بينهم وبين آخرين في نفس التخصص؛ لأن طبيعة المادة المكتوبة لا تسمح بذلك.
بالتالي يمكن فض الاشتباك قليلًا حول تحديات القراءة إذا قلنا إنها تحتوي العديد من التصنيفات بداخلها، فيمكن أن يكون التحدي دائرًا بين عدد من محبي الأدب الخيالي مثلًا، ويمكن أن يكون التصنيف الآخر بين عدد من قرَّاء الكتب الفلسفية، وهكذا، فيصبح نوع الكُتب محددًا، ما يعني أن نوعية القُرَّاء ستكون متشابهة أيضًا، فيصبح التحدي أكثر عدلًا ومنطقية. ويتحول من ميدان تنافس إلى مضمار تشجيع وبث الحماسة بين القرَّاء بعضهم وبعض.
لكن يجب الحذر من نقطة التواجد دائمًا مع النوعية الآمنة والمفضلة من القُراء والكُتب، فمع الوقت قد يكتشف الإنسان أنه محصور في منطقة محددة من الكُتب لا يتجاوزها أبدًا، تلك النقطة قد تُحسب لصالح تحديات القراءة الجماعية، التي لا تُراعي بنسبة كبيرة نوعية مُحددة من الكُتب، وتحاول أن تشمل أطيافًا مختلفة من الكُتب. ففي ذلك السيناريو يكون تحدي القراءة وسيلة فعَّالة للخروج من منطقة الأمان، واستكشاف نوعيات مختلفة من الكُتب والمعارف.
ويجب دائمًا أن يكون القارئ واعيًا بذاته وبقدراته، فيمكن أن يكون تحدي القراءة بمثابة شرارة البدء، لكن استمرار الشعلة مُتقدة يعتمد على الشخص نفسه أكثر مما يعتمد على أجواء التحدي. كما أن القارئ يمكن أن يُقرِّر بشكل واعٍ تمامًا أن الرقم الموضوع للتحدي يتجاوز قدراته على القراءة، فيخلق لنفسه صورة مُخففة من التحدي خاصة به.
والأهم أن تكون واعيًا بأن المُتعة ليست دائمًا مرادفة للقراءة. والتصور الشائع عن أن القراءة فعل ممتع قد يكون السبب في عزوفك عن تحديات القراءة، وعن القراءة ككل؛ لأن القراءة لا يُفترض بها أن تمنحك المُتعة دائمًا، ربما تصيبك النشوة إذا اكتشفت معلومة جديدة في كتاب، أو صحَّح لك الكتاب مفهومًا خاطئًا، لكن عملية اكتشاف المعلومة والوصول للمفهوم الصحيح عبر القراءة تكون عملية مُملة، وتدعوك في كل لحظة أن تُلقِي الكتاب من يدك.
فالقراءة دائمًا تُقابل التعلُّم، وهدفك من القراءة هو التعلُّم؛ لهذا يمكنك أن تحاول بناء عادات تربطك بالقراءة بشكل أكبر، ومن جهة أخرى، تساعدك على الفوز في تحديات القراءة إذا قررت الاشتراك فيها، كأن تصطحب الكتاب معك في المواصلات، أو في أماكن الانتظار، وأن تجعل للقراءة دقائق محددة، حتى لو قليلة، من يومك، وتحاول الحفاظ على تلك الدقائق؛ كي تظل القراءة رفيقًا دائمًا في يومك، وتصبح حيًّا في عملية تعلُّم مستمرة.